زوايا- كورونا......فيروس العالم الرقمي

شاهد

زوايا- كورونا......فيروس العالم الرقمي

كورونا

فجأة، أصبح العالم يعيش تحت وطأة فيروس كورونا بثقافة جديدة و هي ثقافة "البقاء في المنزل"، و هذه الثقافة ليست بجديدة عند بعض الأفراد الذين يعيشون في عزلة اختاروها لنفسهم عن باقي أفراد المجتمع كما هو الحال مع ظاهرة "هيكيكيموري" التي تجعل مليون ياباني أغلبهم شباب يبقون في منازلهم لمدة لا تقل عن ستة أشهر دون الخروج منه متفادين الاختلاط بالأخرين، و الأن أصبحت غالبية الشعوب تحذو حذوهم على مضض و لو نسبيا في ظل الحجر الصحي المفروض على غالبية سكان الأرض.
 و قد علَمنا فيروس كورونا شيئا في غاية الأهمية و هو أن نتكيف بسرعة مع تغير أسلوب الحياة المتعود عليه، وهذا ما يستتبع معه استحداث معايير وممارسات ثقافية جديدة تساعدنا في خلق مناخ يمر بنا بسلاسة من الشخص الكائن الاجتماعي ثم إلى شخص متباعد اجتماعيا أو انعزالي وصولا إلى الرجوع الى الشخص الكائن الاجتماعي مرة أخرى بعد انتهاء فترة الحجر الصحي، و إلا فإننا سنكون أمام أعراض جانبية للحجر الصحي يمكن أن يكون من بينها ظهور ظواهر جديدة مثل ظاهرة "هيكيكيموري".

و بالرجوع إلى الفيروس، فغالبًا ما تم استخدام استعارات الفيروسات لوصف البرامج الخبيثة على الإنترنت، فأسوأ سيناريو لأي برنامج أو سيلة رقمية هو أن يصاب بفيروس يصيب نظامه وبالتالي يدمر عمل، ملفات، مشاريع بل و حتى الذكريات الشخصية المخزنة في البرنامج الرقمي، و بالتالي الفيروسات كانت شكل تهديدا و تحديا للمجتمع الرقمي و نموه. ولكن من المفارقات، أن فيروس كورونا عكس الفيروسات الرقمية أعطى دفعة قوية للمجتمع الرقمي، فهو يساهم في تغيير ثقافي سريع الخطى باستخدام التكنولوجيا الرقمية كمحرك لهذا التغيير من أجل تجاوز هذه الفترة العصيبة، فلا يقتصر الأمر على ظهور الأدوات الجديدة والممارسات الاجتماعية القائمة على الإنترنت، بل يتعداه إلى تعزيز دورها الاجتماعي و حتى الاقتصادي بشكل تؤدي معه وظيفة أساسية في تعويض الفراغ الاجتماعي القاتل في خضم الحجر الصحي، و تقليل الخسائر الاقتصادية في ضل سياسة الإغلاق الشامل في العديد من الدول .

و ليس من المستغرب أن الانتقال الجماعي إلى مكاتبنا المنزلية يعني زيادة في الاتصالات المعتمدة على الفيديو، وكذلك في استخدام منصات الاتصال الاجتماعي. حيث أصبحت الأيام الطويلة مجالًا للتجربة التلقائية التي تكشف عن الإمكانات الإبداعية للتقنيات الرقمية المتوفرة والمتطورة، بدءًا من جولات سياحية افتراضية لأشهر المتاحف العالمية، و المشاهدة الجماعية للأفلام بشكل تناسقي كما هو الحال في السينما، ومباريات كرة قدم افتراضية على شكل ألعاب فيديو، وجلسات التمارين عبر الفيديو، ومجموعات الدردشة الرقمية على Google Hangouts ، إضافة الى القيام بالعمل داخل البيت في العديد من القطاعات باستخدام الانترنت، و أيضا التعليم عن بعد الحاضر قبل كورونا و الذي سيتقوى أكثر بفضل كورونا ليأخد مكانا أكبر في استراتيجيات التدريس مستقبلا بعد كورونا، هذا كله و أكثر يعرضه الإنترنت علينا حاليًا للتغلب على العزلة، فإن تراجعت و تقلصت حركة أجسادنا إلى محيط منازلنا، فأنفسنا الرقمية تتنزه و تبحر في العالم الافتراضي كما لم تفعل ذلك من قبل.
فما كان يُنظر إليه غالبًا على أنه "إضاعة الوقت على الإنترنت"، أصبح فجأة ممارسة اجتماعية مقبولة، بل مرغوبة اجتماعيًا، حيث أصبح ينصح بألعاب الفيديو، واستعمال وسائل التواصل الاجتماعي، و ذلك لمحاولة ملء فراغ التواصل الاجتماعي على أرض الواقع. وقد حدث هذا التراجع في المعايير من يوم إلى آخر. فليس بعيدا أن يعاد النظرة السلبية للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من بعض المنتقدين لاستعمالها، بعد أن أصبح الملجأ لتفريغ عزلتنا الحالية وتقليص الشعور بالوحدة ولو إلى حين.

و تظهر لنا كورونا أيضا أننا قادرون على تغيير عاداتنا. وبالتالي قد نتساءل" لماذا لم نفعل ذلك من قبل؟". حيث إنها تجربة إنسانية أن تواجه تناقضاتك الخاصة وتعيد ترتيب أولوياتك مستغلا  فترة الرجوع للذات التي يوفرها الحجر الصحي. ففي حالتي، وعلى الرغم من امتلاك هاتف ذكي لمدة خمس سنوات، تناولت أطراف الحديث مع أصدقاء الدراسة لأول مرة منذ سنوات وأجريت مكالمات فيديو مع أفرادعائلتي هذا الأسبوع.

وإلى جانب التغيير الثقافي والاجتماعي غير المتوقع، تبرز التفاوتات في استعمال الإنترنت، فالوصول اليه وإلى المعرفة ليس مجانيا وليس الجميع متساويا في ذلك. وقد تكون كورونا فرصة لإعادة التفكير في تمكين أكثر عدد من الناس من الانترنت، وأن نجعل من الإنترنت مساحة أكثر ديمقراطية وتعاطفًا، و أن نجعل منه تلك الساحة التي تتسع للجميع باختلافهم.

ففي الواقع، يجب أن نقر بالتأثيرات الإيجابية المشجعة للعديد من استعمالات وممارسات الإنترنت الإبداعية. وإن لم يكن ذلك بشكل كافي، لكن يبقى أنه قد أحدث تغييرا سريعا في الهياكل و المنظومات التي بدت جامدة وغير قابلة للتغيير خلال فترة الحجر الصحي، فقد تم إلغاء جل الأنشطة الحضورية للأفراد و تم استبدالها بأنشطة عن بعد أو أنشطة افتراضية كبديل مؤقت، و الانترنت يلعب دور الوسيط في هذا نوع من الأنشطة.

كما أن كورونا تتيح لنا تعلم مفهوم الطوارئ، ومفهوم الخطة "ب"، و أنه لا يوجد شيء لا يمكن تغييره، و أنه لا يمكن توقع كل شيء، فنحن نشهد فترة من الإبداع التنافسي القسري بشكل مثير ومثير تتحول فيها المعايير والموارد وأنماط الإنتاج بوتيرة أكثر إثارة، و الأكيد أن هذه الفترة ستمكننا من الخروج بمجتمع رقمي أفضل و استعمال أمثل للإنترنت، مع وجود استثناءات لذلك طبعا.

فالعمل والعيش على الإنترنت يمثل تحديًا للناس، كما أنه يخلق تبعيات جديدة للبنية التحتية الضعيفة في العديد من الدول التي لا يزال يتعذر فيها على الجميع الوصول إلى خدمات الانترنت على قدم المساواة. وهذا قد يسهم في ترسيخ عدم المساواة الاجتماعية، كما أن التحكم في الانترنت قد يجعلنا تحت رقابة موجهة في إطار ما يسمى "مجتمع السيطرة" المتمثل في الشركات الرقمية الكبرى والدول الأكثر تقدما في المجال التكنولوجي.لذلك، حذر عالم الاجتماع "ريتشارد سينيت" الجمهور من الانتقاد الشديد للتدابير السياسية للعديد من الدول التي تجعل المراقبة أمرًا طبيعيًا للأنشطة التي تدار في الانترنت بإسم السلامة العامة، لكن أكيد دون أن يؤدي ذلك إلى أن تمارس هذه الدول الوصاية على الناس في استعمالهم للإنترنت.

و إذا نظرنا إلى ممارسات الإنترنت هذه الأيام، يمكننا أن نرى نظرة أكثر إشراقًا على مستقبل العالم الرقمي ما يعترف به العديد من المتشائمين قبل المتفائلين منهم. حيث يستخدم العديد من الأشخاص صفحاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي للدعوة إلى التضامن الاجتماعي ودعم الجهود المحلية لمكافحة انتشار وباء كورونا. ليصبح الإنترنت مكانًا للتضامن والوفاء بالاحتياجات الاجتماعية والثقافية. فأصبحت المعرفة متشاركة وموفرة بشكل مجاني دون استهداف الربح المادي. كما يلاحظ أن الناس لا يستسلمون للوضع، بل إنهم يعيدون تنظيم أنفسهم ويفكرون في كيفية الاستمرار في ما يفعلونه في المجال الرقمي حتى بعد انتهاء الفترة الحالية.
 و ختاما إن ثقافة البقاء في المنزل الجديدة متناقضة بإيجابياتها و سلبياتها، ولكنها تنطوي على إمكانات اجتماعية كبيرة و فارقة قد تنتج عنها عالم بعد كورونا مختلف عن عالم قبل كورونا.